• Click Here to Read Papers about Crescent Visibility and Prayer Times
  • Click Here to see the Crescent World Records

International Astronomical Center

مارا: إثبات الهلال بين عصر الرسول (ص) والعصر الحديث




حقوق الطبع لهذا البحث محفوظة للمشروع الإسلامي لرصد الأهلة © 2007

المواد غير قابلة لإعادة النشر دون إذن مسبق


إثبات الهلال بين عصر الرسول(ص) والعصر الحديث

 

عبد الأمير المؤمن

 

 

1 ـ مقدمة

من المسائل المهمّة التي يواجهها المسلمون والعالم الإسلامي اليوم، مسألة إثبات هلال الشهر القمري (العربي).

فهي مشكلة معقدة لم تجد حلاً شافياً إلى الآن، فما زالت محل جدل و نقاش طويلين بين المسلمين، عقدت من اجلها المؤتمرات والندوات ووضعت لها حلول واقتراحات تنوعت بتنوع الجهات والأطراف المشتركة بالمؤتمرات، وأساس المسألة يدور حول كيفيه إثبات أول الشهر القمري، الذي يمكن أن يتم بأكثر من طريقة، فيمكن بالطريقة المباشرة (الرؤية البصرية) وهي الوسيلة التي نص الرسول الأعظم(ص) على اتّباعها، ويمكن بطريقة أُخرى هي الحساب والجداول الفلكية، ويمكن بطرق فرعية أُخرى.

وفي هذا البحث وددت أن اقرأ هذه المسألة من خلال ظروف عصرين مبتعدين ومختلفين، عصر الرسول الأكرم(ص) حين لم تكن المسألة مشكله بعد، ولم تكن الآراء متعدّدة، الكل آخذ بقول الرسول، المعروف :«صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته».

ومن خلال العصر الحديث، حين تغير كل شيء واستجدت ظروف شطرت المسألة إلى طريقين لإثبات الهلال، دارت حولهما آراء ونقاشات ابتعدت كثيرا عن ذلك التوحد في عصر الرسول، متوخيا معرفة ظروف كل عصر وأثرها في الطريقة، ومقتنعا ان لا تعارض بين الطريقتين، وإنّما الواحدة تكمل الأُخرى.

 

2 ـ الرؤية والحساب ما قبل الإسلام

في البداية لم تكن غير العين المجرّدة والطريق الحسي المباشر سبيلا لقراءة السماء وظواهرها الممكنة. فتوافرت للإنسان القديم معلومات بسيطة عن الشمس والقمر والنجوم والكواكب وظواهر كونية أُخرى، وحين وجد أنّ العين وحدها غير كافية لقراءة السماء استعان بما صنع من أدوات بسيطة وما تعلم من حسابات ليحصل على معلومات وملاحظات فلكية أكثر وافضل.

من خلال ذلك استطاعت الحضارات القديمة ان تقدم إنجازات فلكية ورياضية كثيرة، فمن خلال معرفتها بحركات الشمس والقمر والكواكب استطاعت ان تحسب وتسجل إنجازات وجداول كثيرة، ومازال بعضها باقيا إلى الآن، وبين أيدينا الآن جداول فلكية مهمّة تتعلق بشروق الزهرة وغروبها ترجع إلى عهد (امي صدوقا) Ammisadouqa أحد ملوك سلاله بابل الأولى، لعلها اقدم الأمثلة على الجداول الفلكية القديمة(1).

وكان الكلدانيون يحدّدون مسبقا موعد ظهور الهلال، فكانوا يسجلون مشاهداتهم على شكل تقويم(2).

وفي الجزيرة العربية، كان العرب قبل الإسلام على معرفة فطرية بالسماء والكواكب والنجوم والظواهر الكونية، يقول صاعد الأندلسي: «وكان للعرب مع هذا معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغاربها وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة؛ لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة لا على طريق تعلم الحقائق ولا على سبيل التدرب في العلوم»(3).

وكانوا يعتمدون القمر في حساباتهم مدركين أنّ مسيره في السماء يقع ضمن نطاق خاص قسموه إلى 28 قسما ينتقل كل ليله إلى قسم واحد من الثمانية والعشرين يعرف بالمنزلة فيبدأ هلالا ويكبر ليصبح بدرا ثم يأخذ بالتناقص ليرجع هلالا مره أخرى. أدركوا ذلك كله وتابعوه، وكان تقويمهم قمريا، فكانت السنة والشهر بحساب القمر. وهذا ما أقره الإسلام كما سنرى.

وعلى الرغم من كل معلوماتهم القمرية و ملاحظاتهم الفلكية لم نستطع ان نطلق عليهم فلكيين وحسابا. وإنّما هم فطريون كما ذكرنا.

وكان الاستهلال هو المبدأ الذي سار عليه أبناء ذلك العصر في تعيين أوائل الشهور. فإذا اختفى القمر في آخر الشهر ولم يظهر خرجوا لمراقبه الهلال وتثبيت مبدأ الشهر(4).

 

3 ـ القرآن والهلال والرؤية

نزل القرآن الكريم على صدر محمد(ص) ليهدي الناس وينظّم حياتهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور على حدِّ تعبير القرآن: قال تعالي : «الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّور»(5). وقد تضمن مختلف شؤون الحياة، ما يهم الإنسان في دنياه وآخرته.

ومن بين ما تضمن، الحديث عن ظواهر كونية عديدة ومتنوعة: تحدث عن الشمس والقمر والنجوم والسماء والأرض وما إلى ذلك من الظواهر الفلكية. رامياً وراء ذلك التذكير بقدرة الصانع المبدع، وفي الوقت نفسه رمى ما يمكن ان تتيح معرفة تلك الظواهر من منافع دنيوية بشرية.

وقد خص الشمس والقمر بعدد كبير من الآيات، فهما ظاهرتان ماثلتان أمام العيون، وذاتا فوائد كثيرة ومباشرة. فمثلاً جعل القمر مرجعاً أساسياً لحساب الوقت وتنظيمه، نضبط به أيامنا وشهورنا وسنينا لكي لا نعيش فوضى زمنية. وهو وسيلة حسية سهلة لافتة للنظر لا يمكن أن يغفلها إنسان.

فمن خلال حضوره الدائم يستطيع الإنسان أن يقطّع الامتداد الزمني المتشابه، إلى وحدات صغيرة وكبيرة يقيس بها الزمن، فهو أداة سهلة وواضحة وفي متناول الجميع، يرى كل الناس أوجهه المختلفة دون عناء، كل شهر متنقلاً، من هلال إلى نصف بدر إلى بدر إلى نصف بدر إلى هلال إلى اختفاء إلى ظهور جديد… ليبدأ شهر جديد وهكذا…

إنّه وسيلة فطرية رائعة لحساب الزمن… وحين تساءل الناس عن الفائدة من هذه التشكيلات أجاب القرآن صريحاً: هي مواقيت للناس، قال تعالى: « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ …»(6).

فبمجرد جمع هذه التشكيلات خلال دورة كاملة، تتوافر لدى الناس وحده زمنية سميت (شهراً) وبجمع اثني عشر وحده زمنية تتكون وحدة زمنية أكبر سميت سنة (وهي السنة القمرية) وهذا ما أكّده القرآن الكريم صراحة بقوله: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأرض مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم»(7).

إذن هي السنة القمرية المرتبطة بالطبيعة الواضحة بشكل مباشر، وفي متناول الجميع بشكل مباشر أيضاً.

ولتسهيل تطبيق الأحكام الشرعية المرتبطة بأزمنة محدّدة كالصوم والأعياد والحج ربَطَنَا الله تعالى بالأشهر القمرية حيث هي الأقرب إلى الجميع…

أمّا حسابات هذه الوحدات وتفاصيلها وبداياتها ونهاياتها، فقد تركها الله للإنسان مسترشداً بعقله وما وفرت له السنة الشريفة من معلومات وإرشادات. وليس في الآيتين المذكورتين أشارة إلى كيفيّته إثبات الشهر بالرؤية أو بالحساب.

وحتى حين تحدث القرآن الكريم عن شهر رمضان والصيام وأورد بعض تفاصيله لم يحدد لنا طريقة معيّنة لإثبات هلال رمضان، فلم يذكر لا الرؤية البصرية الفطرية ولا الحساب والجداول الفلكية. . وإنّما اكتفى بقوله تعالى: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه…»(8).

وتعنى « شَهِدَ» – كما يقول الراغب الأصفهاني –: «الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة أمّا بالبصر أو بالبصيرة»(9)، فالآية لم تحدد طريقة معيّنة لإثبات الهلال وإنّما هي ناظرة لأُمور رمضانية أخرى.

وفي تفسير الطوسي ورد: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه» قيل في معناه قولان:أحدهما من شاهد الشهر مقيماً به. والثاني من شهده بأن حضره ولم يغب(10).

وفي تفسير الفخر الرازي ورد: شهد أي حضر والشهود الحضور، شاهد الشهر بعقله ومعرفته(11).

ويقول سيد قطب: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه»، أي من حضر منكم الشهر غير مسافر أو من رأى منكم هلال الشهر(12).

ويقول السيد الطباطبائي: «وأمّا كون المراد بشهود الشهر رؤية هلاله وكون الإنسان بالحضر مقابل السفر فلا دليل عليه إلاّ من طريق الملازمة في بعض الأوقات بحسب القرائن ولا قرينه في الآية»(13).

والمفسّرون الآخرون لا يخرجون عن هذه المعاني.

ومن كل ذلك نعرف أنّ القرآن الكريم لم يحدد لنا طريقة معيّنة. .

وعلينا أن نلتمسها من السنة الشريفة، ثاني المصادر التشريعية في الإسلام.

 

4 ـ الرسول الأكرم والرؤية البصرية

وإذا لم يذكر القرآن الكريم طريقة صريحة لإثبات الهلال في أوائل الشهور القمرية التي جعلها الله للناس، فقد جاء الرسول الأكرم ليفصل ما ورد في القرآن أو ليتحدث بأحاديث نبوية هي الأُخرى من الله تعالى، حسب ما ذكر القرآن نفسه « وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى »(14).

مقدراً كلامه عن وفق طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه، آخذاً بنظر الاعتبار درجه علم الفلك في زمنه، وما يفهمه الناس من العلوم الفلكية والثقافية القليلة التي يمتلكونها والبيئة الطبيعة التي يمكن أن يرى فيها الهلال… ليقع كلامه في موقعه المناسب….

لقد قالها صريحة، قال بالرؤية البصرية الفطرية التي يمكن أن يدركها، بسهوله أي فرد في مجتمعه دون أي عناء، فقد ورد تأكيد الرؤية المباشرة من خلال نصوص متشابهة وكثيرة، ذكرتها أمّهات الكتب الحديثية والصحاح والمسانيد، منها مثلاً:

قوله(ص)عن البخاري : «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيمتموه فافطروا»(15).

وقوله(ص)عن مسلم : «فصوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن أغمى عليكم فاقدروا له ثلاثين»(16).

وقوله(ص) عن أبي جعفر (ع) : «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا وليس بالرأي ولا بالتظني ولكن بالرؤية» (17).

وقوله(ص) عن أبي عبد الله (ع) : «صم لرؤية الهلال وافطر لرؤيته»(18). وهناك نصوص مشابهة في مسند أحمد وسنن النسائي وسنن الترمذي وغيرهم مما يطول ذكره. قال (الرسول الأعظم) تلك النصوص دون أيّة إشارة إلى الحساب كطريقه أخرى، ويعنى هذا أن الرؤية المباشرة هي الوسيلة الأساسية في عصره.

وهنا لابد من قراءة الظروف (العلمية والبيئية الطبيعة والاجتماعية) التي احتضنت حديث الرسول الأعظم(ص)المذكور آنفاً، لتتوافر بين أيدينا صورة صحيحة عن مناسبته لتلك الظروف وانسجامه معها.

لقد قال حديثه على وفق عصره، ولا يمكن أن يكون غير مناسب أبداً، فهو لا ينطق عن الهوى بنص القرآن، كما ذكرنا ولا يتفوه دون حكمة ودون هدف محدد مرسوم، ويبقى علينا البحث عن تلك الحكمة، وقراءة ظروف عصره، لنستطيع الربط بن حديثه(ص) وطبيعة الظرف الذي احتضن الحديث. وحينها سنعرف نحن أبناء القرن العشرين الذين اختلفت ظروفنا عن ظروف ذلك العصر. أن حديث الرسول هو الحديث الأوحد، ولا يمكن غيره في مثل تلك الظروف.

ولا شك أن هناك عدة مسوغات استدعت احتضان ذلك العصر لفكرة الرؤية البصرية واستبعاد الطريقة الحسابية كوسيلة لإثبات أول الشهر القمري.

ويمكن أن نذكر من تلك المسوغات: ظروف العلوم الفلكية وظروف البيئة الطبيعية (ظروف الجو) والظروف الاجتماعية.

 

أ ـ ظروف علم الفلك زمن الرسول

قضية الهلال وظهوره وتغير أوجهه وغيابه وظهوره مره أخرى، هي قضيه علمية فلكية، أمّا إثبات حالاته المختلفة أو بعض حالاته فيمكن أن يتم بالرؤية الفطرية المباشرة، أو بحسابات معيّنة، ولا شك أنّ الرؤية البصرية متاحة للجميع من ذوي البصر الطبيعي أمّا حساب القمر وإثبات حالاته المختلفة فليس متاحاً للجميع، وإنّما يقتصر علـى ذوي الاختصاص والخبرة.

وبالطبع للرؤية شروط فإذا توافرت فهي وسيلة علمية مقبولة وإذا لم تتوافر فلا يمكن اعتبارها وسيلة علمية، وحينها يجب البحث عن الطريقة الأفضل، لإثبات الهلال.

وللحسابات شروط أيضاً، فإذا توافرت فهي وسيلة علمية مقبولة، وتعتمد دقتها -بشكل رئيسي- على درجه تطور علم الفلك، ومدى دقّة حساباته وجداوله الفلكية المأخوذة عادة من الأرصاد و الملاحظات المستمرة، فإذا كان علم الفلك ناضجاً ومتطوراً ودقيقاً في حساباته، فيمكن الاعتماد عليها وتوفير إمكانية الرؤية البصرية الدقيقة، وإذا تضافرت الحسابات والرؤية البصرية، توافرت بين أيدينا درجة عالية من الدقة لإثبات الهلال، يمكن تسميتها (درجه يقينية)، وان لم يكن علم الفلك ناضجاً ومتطوراً أو لم يقم على أسس كافية فلا يمكن الاعتماد على حساباته، وحينها سيكون الرجوع إلى الفطرة، إلى الرؤية البصرية المشروطة هو السبيل الصحيح لإثبات الهلال.

وهنا، ولمعرفة الحكمة من تأكيد الرسول الأعظم(ص) الرؤية البصرية لابد لنا من قراءة ظروف علم الفلك في عصره ومعرفة درجه تطوره.

فهل كان هناك علم فلكي حقيقي يمكن الاعتماد على حساباته وجداوله؟ أو كان مجرّد ملاحظات فلكية محدودة وتنجيم خرافي أو مزيح بين الاثنين؟

إنّ قراءة عناصر الفلك الموجود زمن الرسول ستوفر لنا منهجاً صحيحاً لطريقه إثبات الهلال في وقت اصبح إثباته ضرورياً في دين قامت بعض عباداته على ضبط دخول الشهر، كصوم شهر رمضان والإفطار في عيده، وتعيين عيد الأضحى.

إذن ظروف علم الفلك زمن الرسول ستلعب دوراً في تحديد الطريقة الأفضل لإثبات أوائل الشهور القمرية، وحضوره ضعيفا أو قوياً له صلة في نوع الطريقة اللازمة لإثبات الهلال، ولكن لم يكن الفلك متطوراً في عصر الرسول على ما تؤكد الدراسات والأبحاث.

وفي الحقيقة، كان علم الفلك زمن الرسول الأكرم(ص) امتداداً للفلك في عصر ما قبل الإسلام (الجاهلي)، امتداداً في حالته الفطرية المحدودة، مع رفض الرسول لعدد من مواده الضارة بالمجتمع كالأنواء(19)، والنسيء(20) والاعتقاد بتأثير النجوم والكواكب والأبراج مؤثرة في الحوادث الأرضية، وعبادة النجوم والكواكب التي سادت في العصر الجاهلي.

وعلى الرغم من أن القرآن الكريم جاء بالمنهج الصحيح في قراءة الفلك والنظر إلى السماء والظواهر الكونية، وحث على قراءة كل مخلوقاته سماوية كانت أو أرضية، قراءة علمية بعيده عن التصورات الخرافية والميثولوجية (التي اعتبرت مكونات السماء آلهة مؤثرة في أحداث الأرض أو تتحكم بمصائر الناس) وعلى الرغم من ورود آيات عديدة تتحدث عن مفردات فلكية ومواد سماوية متنوعة. على الرغم من كل هذه المعطيات القرآنية وتأثر المسلمين بها، لم تكن المادة السماوية على عمومها واقعة في دائرة اهتمام المسلمين في عصر الرسول، كان هناك ما هو أهم وأولى من الفلك وما شاكله من العلوم، كانت مسألة تثبيت الدعوة الإسلامية والانشغال بالحالة الإسلامية الجديدة وجوانبها المتعددة، جوانبها السياسية والعسكرية والثقافية وأُخرى لها علاقة بها، هي الشغل الشاغل للمسلمين. فقد طغت هذه الجوانب على كل ما عداها من جوانب، وخاصة تلك التي تتعلق بالمعارف العلمية، كالطب والرياضات والفيزياء وما شاكلها.

فضعفت أو قل الاهتمام بها في تلك الفترة. فكان العصر سياسياً دينياً، وثقافياً بما ينسجم وتثبيت الدعوة، لا يهتم بالمادة العلمية البحتة. وقد أشار صاعد الأندلسي إلى هذه الحالة بقوله: «وكانت العرب في صدر الإسلام لا تعتني بشيء من العلم إلاّ بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها حاشا صناعة الطب فإنّها كانت موجودة عند أفراد من العرب غير منكرة عند جماهيرهم لحاجة الناس طراً إليها»(21).

والثقافة آنذاك كانت تدور بشكل أساسي حول القرآن وبلاغته، وما يتعلق به من نحو ولغة وفقه وأخبار وتاريخ… ثم الانشغال بجمع الحديث النبوي وتدوينه وضبط سنده، إضافةً إلى الاهتمام بالشعر والخطابة لحاجة الدعوة إليهما. وتأكيد الجهاد في سبيل الله ونشر الدعوة إلى خارج الجزيرة العربية. وهذه الانشعالات الكثيرة والمتشابكة لم تدع مجالاً للاهتمام بعلم الفلك والمعرفة العلمية الأخرى، على أنّ الفلك الموروث من العصر الجاهلي لم يكن مادة علمية منظّمة خاضعة لمنهج محدد، ونظرية علمية معيّنة، وإنّما هو متفرقات ومعلومات وملاحظات ومزيج من الفلك والتنجيم وامتداد لفلك العصر الجاهلي – كما قلنا –.

ويؤكد هذه الحالة الفلكية الضعيفة المستشرق نالينو (المتخصص في التراث الفلكي) بقوله: «وبالجملة مدة القرن الأول للهجرة وأوائل القرن الثاني لم تزل المسلمين بعداء عن علم الفلك وسائر العلوم الرياضية والطبيعية. ومن الأدلاء على ذلك أيضاً ما كتبته قدماء المفسرين والمحدثين كلما أرادوا أن يشرحوا شيئاً من علم الهيئة فإنّهم أتوا بما لا يعول عليه من الأخبار في أمر السماوات و الأرض والكواكب ناقلين ما كان رائجاً عن عوام أهل الكتاب أو المجوس »(22).

وإذا كان هناك علم فلكي ناضج، مجاوراً للجزيرة كالتراث الفلكي اليوناني والفارسي والهندي وغيره، وما وفرته مدن الإسكندرية المصرية وحران وغيرهما وعلوم الأديرة، فلم يصل منه سوى شذرات، ولم يدخل العالم الإسلامي بشكله الواسع إلاّ في القرن الثالث الهجري، عند ما ترجمت أمّهات الكتب الفلكية والرياضية، ككتاب المجسطي لبطليموس، وكتاب الأصول لاقليدس وغيرهما.

وحتى لو كان فلك مترجم في الصدر الأول، فلا نعتقد ان نضجه وتطوره يؤهلانه لتوفير أرصاد وجداول دقيقة يمكن الاعتماد عليها في حساب إثبات الهلال، فالفلك الوافد (وخاصة اليوناني) كان في الغالب فلكاً نظرياً لم يعتمد الأرصاد الميدانية بشكل أساسي، ولم يخل من الخرافات والتنجيم بما فيه أمّهات كتبه.

ويذكر نالينو أنّ أول كتاب فلكي ترجم إلى اللغة العربية هو كتاب «عرض مفتاح النجوم» المنسوب إلى هرمس الحكيم، ويحتمل انه كتاب تنجمي ترجم سنة 125 هجرية(23).

وحتى حين اشتدت حركة الترجمة ونضج علم الفلك في الإسلام لا نستطيع الاعتماد على جداوله في قضيه شرعية كإثبات أول الشهر القمري.

لم تكن المعرفة الفلكية في صدر الإسلام معرفة علمية حقيقة، كانت معرفة فطرية موروثة من العصر الجاهلي -كما قلنا- فمثلاً كانت الشمس ساعة يحدد بها الوقت (ساعة شمسية) و مواقع النجوم محددات لمواقع الأرض التي كانت تهم العربي في تنقلاته ورحلاته عبر الجزيرة العربية. ومعرفة بسيطة بالقمر، بأوجهه ومنازله والكواكب وحركاتها وأخرى غيرها. كل ذلك لم يوفر حسابات وجداول علمية دقيقه. ولا دقّة في الأرصاد يمكن استخدامها في معرفة دراسة ما يتعلق بأوائل الشهور. وقد أدرك الرسول الأكرم ذلك كله، أدرك أنّ الأمّة لا تستطيع الحساب والدقّة في استخدامه فقالها صراحة: «إنّا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب. الشهر كذا وكذا وكذا»(24).

ويذكر ابن حجر العسقلاني ان الظروف الثقافية في عصر الرسول تتناسب والرؤية ولا تتحمل الحساب، ففي الحساب حرج ومعاناة على عموم الأمّة.

لكن ابن حجر يتجاوز ذلك ويرى نفى الحساب وان كتبت الأمّة وحسبت يقول :«وقيل للعرب أميون لأنّ الكتابة كانت فيهم عزيزةً، قال تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُم» ولا يرد على ذلك انه كان فيهم من يكتب ويحسب لأنّ الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة. والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضاً إلاّ النزر اليسير فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج منهم في معاناة حساب التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً»(25).

 

ب ـ ظروف البيئة الطبيعية والاجتماعية

لا تكون الرؤية الفطرية المباشرة سليمة وصحيحة ما لم تتحقق في ظروف بيئية طبيعية مناسبة، بل لا يمكن رؤية الهلال في جو ملوث مكدر. فمن الشروط الأساسية لرؤية الهلال ان يقع ضمن جو صاف مناسب لرؤيته وإلاّ فاحتمالات الخطأ والتوهم والخداع البصري واردة وكثيراً ما أعلن عن رؤية الهلال وتبين ان المرئي ليس هلالاً وإنّما شائبة عالقة في الجو أو ما شاكلها. فقد حدث أثناء تجربة شيفر بالاستهلال في الولايات المتحدة الأمريكية بأن شهد 15% من المستهلين برؤية وهمية، على امتداد تجربة دامت أربع سنوات.

وعلى هذا الأساس يجب أن نأخذ بنظر الاعتبار طبيعة الجو حين نريد رؤية هلال صحيح ودقيق يجب أن نقرأ البيئة الطبيعية: صفاءها نقاءها درجه تلوثها. . لتقع الرؤية في موقعها الصحيح.

ويمكن تقسيم المكدرات المؤثرة في رؤية الهلال إلى قسمين رئيسيين، مكدر طبيعي، وآخر صناعي.

والمكدر الطبيعي معروف للجميع، وقديم منذ خلق الله الأرض والإنسان : كالرياح والعواصف والسحب والغبار وبخار الماء وما إلى ذلك(26).

وهذا المكدر مشترك بن عصرنا الحالي والعصور السابقة، فلم تتبدل طبيعة الجو بين الصدر الأول والعصر الحالي على الأقل. وكانت طبيعة الجو محل اعتبار كلٍ من الفقهاء والفلكيين، وخاصة عند ما توسعت دراسة إثبات الهلال.

أمّا المكدر الثاني (الصناعي) فهو حالة جديدة لم تكن من قبل و إنّما استجدت بمجيء العصر الصناعي و(التكنولوجي) وخاصة في القرن العشرين، وبالأخص نهاياته، كما سنرى لاحقاً.

ولعل اشهر نتائج هذا المكدر أو التلوث الصناعي هو تآكل طبقة الأوزون المانعة لدخول الأشعة فوق البنفسجية الضارة، إلى سطح الأرض في القرن العشرين.

وإذا ما قارنا درجة نقاء الجو وصفائه بين القرن العشرين وخاصة نهاياته والقرون السابقة وخاصة ما قبل عصر الصناعة، لوجدنا الفارق كبيراً وهائلاً.

كانت القرون السابقة، قرون نقاء جوي، فكان عصر الرسول الأعظم ضمن هذا النقاء والصفاء، فلا صناعة ولا دخان ولا أضواء صناعية ولا تلوت يؤثر في الرؤية البصرية.

ولذلك، فهناك فرق أكيد بن نتائج رؤية عصر صدر الإسلام، العصر الخالي من التلوث والمكدرات، ونتائج رؤية العصر الحديث المليء بالملوثات والمكدرات المانعة للرؤية الصحيحة. انه فرق بين رؤية ذات شروط مناسبة وأُخرى لا تملك شروطا مناسبة ولا صحيحة.

ويمكن أن نضيف إلى توافر الجو الطبيعي الصافي زمن الرسول توافر الأرضية الاجتماعية المناسبة لرؤية هلال صحيح. ففي ظل بيئة طبيعة خاليه من الشوائب الصناعية والضوئية، وفي ظل حياة صحراويه علاماتها الأساسية النجوم، وضوؤها الرئيسي القمر وأضواء النجوم، في ظل تلك الظروف كان الناس أكثر تماساً واقتراباً من السماء والنجوم عما يعيشه إنسان العصر الحاضر.

كان الناس على معرفة فطرية وعمليه بمكونات السماء الرئيسية، كانوا على معرفة بمواقع النجوم وتجمعاتها يستعينون بها ادله أساسية في معرفة طرقهم وتنقلاتهم في الليل البهيم، وراء الكلأ والزرع والماء، كانت معرفتهم في ذلك متجذّرة يذكر ابن قتيبة: «وصحبني رجل من الأعراب في فلاة ليلاً فأقبلت أسأله عن محال قوم من العرب ومياههم، وجعل يدلني على كل محله بنجم، وعلى كل ضياء بنجم. فربما أشار إلى النجم وسماه، وربما قال لي: تراه، وربما قال لي: ول وجهك نجم كذا، أي اجعل مسيرك بين نجم كذا حتى تأتيهم. فرأيت النجوم تقودهم إلى موضع حاجاتهم، كما تقود مهايع الطريق سالك العمارات. ولحاجاتهم إلى التقلب في البلاد والتصرف إلى المعاش وعلمهم ان لا تقلب ولا تصرف في الفلوات إلاّ بالنجوم، عنوا بمعرفة مناظرها. ولحاجتهم إلى الانتقال عن محاضرهم إلى مياه وعلمهم ان لا نقلة إلاّ لوقت صحيح يوثق فيه بالغيث والكلأ، عنوا بمطالعها ومساقطها»(27).

وكانوا على دراية ومعرفة فطرية بالقمر وأحواله، حركاته، أوجهه، ظهوره، وكل الظروف التي تتعلق به، دراية حاضرة في عموم المجتمع، على الرغم من عدم حضور علم الفلك المنهجى المنظم.

إنّ هذه الحالة المعرفية العلمية الفطرية هي حقيقة واقعة زمن الرسول، ولا شك أنّها ساهمت في توفير الظروف المناسبة للرؤية البصرية.

وهي ليست حاضرة في عصرنا الحالي، حيث لم توفر أجواؤنا الصناعية ذلك. لقد ولدت ظروفنا الجديدة حالات وأوضاعا جديدة أبعدت الناس والمجتمع عن معايشة القمر الفطرية والعملية، التي كانت من قبل، على الرغم من تطور علم الفلك.

 

5 ـ دقّة تشخيص الرسول الأكرم للرؤية

في ظل ظروف عصر الرسول الأكرم(ص)، ظروف ضعف علم الفلك العربي الإسلامي، وظروف البيئة الطبيعية الخالية من التلوّث الصناعي والضوئي، وظروف معرفة المجتمع الفطرية والعملية لأوضاع الهلال كما ذكرنا.

في ظل تلك الظروف، ماذا يمكن أن يقرر سيد الخلق ونبي الفطرة من طريقة لإثبات أوائل الشهور العربية؟

هل هناك أفضل وأنجع وأكثر انسجاماً من الرؤية البصرية الفطرية ؟

هل يمكن ان يختار الحسابات الفلكية والرياضية، طريقاً آخر أو إضافياً، في ظل فلك غير ناضج وغير مضمون النتائج؟

هل يمكن الاعتماد على ملاحظات فلكية محدودة وضعيفة لم تصدر عن مراصد فلكية (حيث لم تكن آنذاك مراصد) ولا عن دراسات ميدانية منهجيه؟

لم يمكن ذلك أبداً، ليس من حكمة الرسول ولا من حكمة حكيم عادي أن يقبل بذلك.

إنّ القليل من الفلك والكثير من التنجيم والخرافات والأخطاء وندرة الفلكيين، الحقيقيين، وشحه الجداول الفلكية أو انعدامها، تلك الظروف لم تستطع توفير طريقة أخرى (حسابيه)، وإذا كانت متوافرة جزئياً فهي طريقة خاصة محدّدة غير مضمونة، لا يمكن أن تنافس الطريقة البصرية المتيسرة لكل فرد وفي كل مكان.

وغير ذلك كانت الرؤية البصرية المباشرة فهي طريقة عامّة سهلة متيسّرة للجميع يمكن أن يأخذ بها أي فرد من أفراد المجتمع دون جهد وعناء، وخاصة والجو لم يتلوث بعد بمخلفات المعامل والمختبرات وضوضاء الأضواء الحديثة. وخاصة وهي عملية حسية بسيطة لا تحتاج إلى دراسة وعناء وخبرة طويلة وعميقة، وحالة مشتركة بن الناس، وليس مقصورة على فئة محدّدة من الناس (كالفلكيين والمنجمين دون غيرهم). لقد كانت ظروفها متوافرة تماماً في عصر الرسول.

من خلال هذه الظروف، جاء أمر الرسول الأكرم، جاء بأفضل ما يمكن ان يقول، أمر المسلمين بطريقة عامّة ممكنة تنسجم والظروف التي يعيشونها والزمان الذي هم فيه، وأزمنة لاحقة، إذا توافرت الظروف الطبيعية العادية. ولم يكلفهم ما لم يكن متيسراً للجميع؛ لأنّه سيكون تكليفاً بما لا يطاق، والله تعالى لا يكلف نفساً إلاّ بما تستطيع، كما جاء بنص القرآن « لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إلاّ وُسْعَهَا»(28)، والله يريد بالإنسان اليسر كما نص القرآن: «يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر»(29).

لم تكن الظروف الفلكية مناسبة لاستخدام الحساب وسيلة لإثبات الهلال، وكيف تكون والفلك في عصره(ص) ضعيف تتخلله عناصر تنجيمية وخرافية، وفيه كثير من الخزعبلات والشعوذات، ونتائجه ليست مضمونة بالمرة.

إضافة إلى ذلك كان عموم المشتغلين به أناسا لا يمكن الاعتماد عليهم ولا على علمهم، لربطهم بين التشكيلات السماوية والأبراج والمنازل القمرية و بين الأحداث الأرضية، ويتخذون من هذا الربط وسيلة نصب للأخبار بالغيب وخداع الناس بالتنبؤ بالمستقبل مما نعرف بالمنجمين وأحياناً بالفلكيين حيث لم يستقر المصطلح بعد. .

لقد نبه القرآن إلى ذلك، وقصر الغيب على الله تعالى وحده. . . قال تعالى: «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين»(30). وهناك آيات مشابهة أخرى.

وشن الرسول الأكرم حمله واسعة على من يؤمن بالكواكب والنجوم متنبئة بمستقبل الناس.

قال الرسول :«اصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأمّا من قال مطرنا بفعل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأمّا من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب. الحديث صحيح»(31).

وقال:«من آمن بالنجوم فقد كفر» لكن قالوا هذا ان اعتقد أنّها مستقلة في تدبيرالعالم(32). وقال: «من أتى كاهناً بالنجوم أو عرافاً أو منجماً فصدقّة فقد كفر بما انزل على محمد»(33).

إنّ حسابات فلكية تنطلق من هذه المرحلة الضعيفة فلكيا، وعلى حسابات هؤلاء المنجمين الضعفاء الذي حاربهم الرسول، ومقتهم الناس لمقت الرسول لهم، كيف يمكن الاعتماد على عليها وعلى تنبوّءات لم تصدر من ثقاة يُطمأن إليهم.

نحن نعتقد أنّ تشخص الرسول لاختيار الرؤية البصرية في ذلك العصر الضعيف فلكياً والقوي تنجيمياً، هو التشخيص الأمثل والأنسب والأكثر دقه.

ولو كان علم الفلك متطوراً ناضجاً قائماً على حسابات وأسس قويمة وكان هناك علماء فلك حقيقيون مفصولون عن المنجمين، لهم جداول فلكية دقيقه صادره عن مراصد وتكنولوجيا متطوّرة، والى جانبهم أجهزة علمية وتكنولوجية متينة، وتوافر حقائق وأرصاد وتجارب معلومات مدروسة تورث الاطمئنان كما هو حال علم الفلك الحديث، أي لو كانت الظروف المناسبة للحساب متوافرة كما توافرت ظروف الرؤية، لأمكن سماع قول منه يناسب هذه الظروف المفترضة.

ولكن لم تكن الظروف العلمية أبداً، ولذلك لم نسمع حديثاً يقول بالحساب كما يقول بالرؤية. وقد كان الرسول(ص) يدرك تلك الظروف تماماً، يدرك ان قومه لا يكتبون ولا يحسبون، كما في نص حديثه الشريف المذكور آنفا، ولذلك لم يكلفهم بالحساب.

 

6 ـ الحساب وتطور علم الفلك

بعد ركود فلكي طويل نسبياً، امتد من صدر الإسلام إلى بداية العصر العباسي، انشغل فيه المسلمون بشؤون الدعوة الإسلامية، بالجهاد ونشر الدين، وفي الوقت نفسه بإرساء علوم القرآن والدين كالفقه والحديث والكلام وما صاحبها من بلاغه ونحو وشعر ونثر، كما المحنا إلى ذلك.

بعد تلك الفترة، وبعد انفتاح المسلمين على العالم الخارجي، وبحثٍ من القرآن الكريم على العلم والثقافة، اندفع المسلمون نحو العلوم التي كانت سائدة في الأُمم المجاورة، قراءةً وترجمة وتفسيراً، فترجموا كتب الحكمة والطب والفلك والرياضيات وغيرها وتكونت ثروة علمية تفاعلت مع المادة الإسلامية الجديدة، وما ورثوه من العصر الجاهلي، ليتحول إلى علم إسلامي متطور حل محل العلم القديم، بل وتفوق عليه بما غذته عقول علماء المسلمين التي تملك ما لا تملك العقول اليونانية والفارسية والهندية القديمة وغيرها من العقول القديمة.

وفي القرن الثالث الهجري تطور علم الفلك وظهرت أزياج فلكية عديدة (والأزياج جداول فلكية) وكان علماء الفلك المسلمون يجددونها باستمرار، وتحتوي الأزياج عاده على أرقام وقيم لحركات الكواكب ومواقعها. واشتهر منها (الزيج الممتحن) وهو نوع من الأزياج خضع للاختبار والامتحان زمن المأمون. وعرفت منها أزياج شهيرة كالزيج الصابي للبتاني، والزيج الايلخاني للطوسي و زيج ابن الشاطر وزيج الغ بك وغيرها(34).

وتطور الفلك أكثر ليظهر علماء افذاذ كالصوفي والبتاني والبيروني والطوسي وابن الشاطر وغيرهم، وتظهر معهم نظريات وأفكار جديدة مهدت للنظرية الفلكية الحديثة (نظرية كوبرنيكوس)(35).

ومع كل ذلك التطور لم يقفز علم الفلك الإسلامي القفزة العلمية المطلوبة، لم يتغير نوعيا، لم يتحول من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس الحديثة، ولم يحدث ذلك إلاّ في العصر الحديث يوم أعلن كوبرنيكوس (توفي سنة 1543) عن نظرية مركزية الشمس بدلا من مركزية الأرض، ويوم طور النظرية كل من كبلر وغاليلو ونيوتن وعلماء الفلك الحديث.

وهنا بدأ علم الفلك الحديث خطواته الكبيرة، ففصل (أي علم الفلك) التنجيم عن جسمه، وتوالى ظهور النظريات والاكتشافات العلمية، والأجهزة الفلكية المتنوّعة، وعلى رأسها التلسكوب الذي فتح باب السماء على مصراعيه، وأجهزة أخرى.

وتلاحقت التطورات، لينطلق الفلك، في النصف الثاني من القرن العشرين، إلى الفضاء، ولينبثق عصر الفضاء بإطلاق الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية والأجهزة الحاسوبية المتنوّعة، لتبدأ قراءة الكون وظواهره المختلفة بطرق متنوّعة، بالضوء العادي والأشعة تحت الحمراء والأشعة فوق البنفسجية وأشعة غاما، وأنواع أخرى من القراءات.

وبناء على هذا التطور وفر العلم الحديث قواعد وأسساً ومعلومات فلكية متينة وصلت إلى حدٍّ القطع، إلى جانب نظريات وأفكار، ما زالت في طور الاختبار والدراسة.

وبناء على هذا أيضاً اصبح علم الفلك مادة علمية حقيقية خاضعة لمنهج علمي محدد، بعيداً كل البعد عن الخرافات والتنجيم اللذين كانا يوماً ما ممتزجين مع الفلك، اصبح دقيقاً في حساباته لا يقول إلاّ ما يطمئن به، وما لا يطمئن به لا يدخله في حساباته، لينتظر الزمن ما يقول فيه.

فأصبحت عمليات إطلاق الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية محسوبة بشكل دقيق، فإذا أرادوا الوصول إلى هدف معين حسبوا كل حركات ومواقع الكواكب المعنية ليصلوا في الوقت المحدد إليه.

لقد اثبت علم الفلك دقّة حساباته من خلال دقه توقعاته، فاستطاع – وبشكل دقيق أيضاً – تعيين مدارات الكواكب وتحديد مواقعها، وحسبان مواقع القمر لسنين عديدة.

فعرف – وبشكل قاطع – بداية الشهر القمري، وعرف أنّها نتيجة حركه كل من القمر حول الأرض، وحركة الأرض حول الشمس، ومن خلال هذه المعرفة الدقيقة عين لحظه انسلاخ القمر عن الشمس (أي ولادته) بشكل قاطع أيضاً، عينها بالساعات والدقائق والثواني، قبل حدوثه بسنين.

وتمكن – وبشكل دقيق أيضاً– حساب غروب الهلال الوليد، وغروب الشمس وفترة مكث الهلال بعد غروب الشمس (إن استمر وجوده فوق الأُفق بعد غروب الشمس) وحساب ارتفاعه فوق الأُفق وسمكه وزاوية انحرافه عن الغرب، وما إلى ذلك من ظروف الإثبات، وكل ذلك أدّى إلى التنبؤ بالرؤية أو عدمها.

اصبح كل ذلك تحت اليد، فهناك جداول فلكية تصدرها هيئات علمية وفلكية دوليه توفر قيم هذه التواريخ والأوقات بشكل مسبق لعشرات السنين، ونذكر منها الجداول البريطانية والأمريكية والألمانية وغيرها.

ان هذه الحالة الجديدة، حالة تطور علم الفلك وظهور جداول فلكية محكمة وحسابات رياضية، لم تكن متوافرة في السابق، في عصر الرسول الأكرم، ولا حتى في العصور اللاحقة بعد الرسول حين تطور الفلك الإسلامي وقدم إنجازات فلكية ممتازة وجداول رياضية فلكية كثيرة. حتى تلك العصور لا يمكن الاعتماد على أرصادها وجداولها؛ لأنّها لم تخرج من أجهزة علمية وتكنولوجية دقيقة، ولا من مراصد فلكية علمية متطورة توفر الاطمئنان العلمي والشرعي اللازمين.

وإذا لم نستطع الاعتماد على أرصاد وحسابات عصر النضج الفلكي الإسلامي فعدم الاعتماد على الفلك والحساب في عصر الرسول سيكون أَولى، لذلك لم يقل الرسول الأعظم به، وفي الوقت نفسه لم يرفضه كوسيلة ممكنة، وكيف يقول به وهو (سالب بانتقاء الموضوع) كما يقول أهل المنطق. لم يكن الحساب ممكناً حتى ينفيه، لقد سكت عنه.

أمّا من قال بنفي الرسول للحساب وإسقاط اعتباره، استناداً إلى قوله(ص) (إنّا أمّة أمّية لا تكتب ولا تحسب…) المذكور آنفاً فلا وجه له. فلو صح هذه التحليل، لدل حديث الرسول على رفض الكتابة وإسقاط اعتبارها، حيث تضمن الحديث أمرين دلل بهما على أمية الأمّة: الكتابة والحساب، ولم نسمع أحداً ذم الكتابة لا قديماً ولا حديثاً، أنّها أمر مطلوب وممدوح، دل عليه القرآن الكريم والسنة الشريفة، والنصوص الواردة فيها كثيرة.

والحقيقة التي لا يمكن النقاش فيها، والتي يعيشها الكل هي ان ظروفاً جديدة ولدت بولادة العصر الحديث، أفرزت أرضية مناسبة جداً لإثبات أوائل الشهور القمرية، أفرزت طريقة قطعية لإمكان رؤية الهلال، لم تكن من قبل قطعاً. وبعبارة أخرى أفرز العصر الحديث وسيلة قوية أخرى لإثبات الهلال، إلى جانب وسيلة الرؤية البصرية التي نص عليها الرسول الأكرم، وسيلة لم يعارضها الرسول أولاً، ولم تعارض وسيلة الرؤية البصرية ثانياً، وإنّما تكاملها، فإذا تعاضدت الوسيلتان، استطعنا أن نقدم إلى العالم هلالاً أكثر دقه وأكثر اطمئناناً.

 

7 ـ الرؤية في ظل التغير البيئي والاجتماعي

الرؤية البصرية المباشرة وسيلة فطرية ناجحة لإثبات هلال الشهر القمري، وصالحه لكل زمان ومكان، وخاصة حين تتوافر شروطها الصحيحة.

وفي عصر الرسول الأعظم، كانت هي الوسيلة الوحيدة، كانت الطريقة الأمثل والأنسب والأكثر انسجاماً مع ذلك العصر، وذلك لوجود البيئة الطبيعية المناسبة، خلو الجو من التلوّث الصناعي والضوئي)، وكذلك وجود مجتمع فطري يعيش أجواء قمرية هلالية فطرية (كما ألمحنا إلى ذلك).

والآن وبعد مضي نحو أربعة عشر قرناً على عصر الرسول(ص) ودخول العصر الحديث، وعصر العلم والتكنولوجيا والتلوّث، بعد دخول القرن العشرين، وخاصة نصفه الثاني لم نعد نعيش جواً طبيعياً (فطرياً) صافياً صالحاً لرؤية هلال واضح، كما كان عصر الرسول يراه. لقد تغيرت الظروف البيئية واصبح رصد الهلال بالعين اصعب واعقد، وذلك لامتلاء الجو بالملوثات الصناعية والضوئية المعيقة للرؤية الدقيقة. فمن الممكن أن نرى هلالاً وهمياً خادعاً ومن الممكن أن نرى أشياء أخرى نحسبها أهلّة.

فالغلاف الجوي الأرضي اليوم، يختلف عن الغلاف الجوي في عصر الرسالة وما بعدها، هو اليوم مليء بمخلفات الصناعة الحديثة، هو ملوث بالكثير من الغازات والسحب الدخانية على اختلاف أنواعها ودرجاتها، من(دخان وضباب)(Smog)، وغشاوة ضبابية ولطخه سخام، ونفثات غازية متقطعة. فيه غاز أول وثاني أوكسيد الكاربون الناتج عن احتراق البنزين من محركات السيارات والطائرات. وفيه ثاني وثالث أوكسيد الكبريت الناتج عن محطات توليد الطاقة الكهربائية ومحطات تكرير النفط، وفيه الهيدوجين الكبريتي الناتج عن تفاعل ثاني أوكسيد الكبريت في الفضاء مع بخار الماء في تأثير الأشعة فوق البنفسجية، وفيه غازات وشوائب أخرى.

ومهما بدا الجو نقياً فهو متأثر بكل أو ببعض هذه الغازات والشوائب. فمن الممكن ان يشاهد الناظر إلى الأُفق الغربي آثاراً على شكل (ريشة) تبدو لعين الناظر بعد مغيب الشمس كأنها هلال.

ولأضواء المصابيح الكهربائية المنتشرة في أجواء المدن وغيرها من الأضواء دور في خداع الناظر، فهي تحدث توهجاً، في الفضاء الذي ينعكس عن بعض الريشات الغازية من الضباب الرقيق التي تأخذ شكل خيط دقيق من النور يشبه الهلال.

وللأقمار الصناعية دور في عكس الضوء، فقد يلاحظ الناظر إلى الأُفق الغربي بعد المغيب ان الجزء المواجه للشمس من القمر الصناعي يعكس النور، فيبدو كأنّه هلال(36).

ويمكن ان نضيف إلى التغير البيئي (الجوي)، التغير الاجتماعي، والتحول من مجتمع فطري عملي (زمن الرسول) إلى مجتمع مدني صناعي معقد، بعيداً عن الحياة العادية والرؤية البصرية الفطرية.

فلم يعد المجتمع المعاصر يعيش حياة فطرية يرى الأشياء كما هي، قريبة منه، لم يعد يرى السماء والنجوم والقمر وظواهر أخرى مندمجة مع حياته يعيش تفاصيلها فطرياً وعملياً، يعرف المجاميع النجمية والأبراج وظروف القمر: ظهوره أطواره اختفاؤه ظهوره من جديد، معرفة عملية حياتية كما يعرفها ذلك العربي الذي كان يعيشها بكل احساساته وأيّامه.

ان تغير المعرفة من حاله فطرية داخلية إلى حالة صناعية آلية جاهزة تقدمها الأجهزة المتنوعة أضعفت ممارسة الرؤية البصرية، وأبعدت الإنسان المعاصر عن الاندماج بظروف القمر، وبالتالي عن الأرضية المناسبة لتسهيل الرؤية البصرية.

وعلى هذا الأساس لم تقع الرؤية البصرية المعاصرة كموقعها في عصر الرسول، لقد تدنت درجتها (مع احتفاطها كطريقة أساسية في ذاتها لإثبات الهلال)، وخاصة بعد اشتداد عود الطريقة الحسابية الفلكية بتطور علم الفلك وقوة جداوله ومعلوماته.

 

8 ـ لماذا لا نجمع بين الرؤية والحساب؟

إذا عرفنا أن نقطة قوة القائلين بالرؤية البصرية المباشرة هي استنادهم إلى الحديث النبوي الصريح (المتفق عليه) «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» المتضمن فطرية الرؤية البصرية (المذكور آنفاً) وان نقطة ضعفهم (في الوقت الحاضر) هي حالة التلوث الصناعي والضوئي المعاصر، المنتشر في جو الأرض.

وإذا عرفنا أيضاً أنّ نقطة قوة الآخذين بالحساب والجداول الفلكية هي تطور علم الفلك والرياضيات ومتانتهما ويقينية نتائجهما إذا استخدمت على وفق أصولها الصحيحة، وأنّ نقطة ضعف الحساب والجداول الفلكية، هي عدم ورود نص قرآني أو نبوي صريح فيهما.

إذا عرفنا ذلك وأدركنا أنّ الفريقين صادقان وجادان في سبيل إثبات هلال صحيح وأكيد يعين أول الشهر القمري، وان وسيلة الحساب تكمل وسيلة الرؤية البصرية، إذا عرفنا ذلك فلماذا لا نجمع بينهما، وفي الجمع رضا الطرفين، وهو حل شرعي وعلمي في آن واحد، وهو الممكن في الوقت الحاضر على الأقل، ومن خلاله يمكن اختبار الطريقة الحسابية بتكرارها على مدى سنين للتمهيد بالاقتناع الكامل بها، فإذا أثبتت صحتها ودقتها وتفوقها على الرؤية البصرية من خلال تجارب عديدة، فمن الممكن أن يقتنع بها الجميع وسيلة يقينية شرعية أُخرى تنهي نزاعاً ونقاشاً دام طويلاً.

يبدو لي أنّ المشكلة اليوم تجاوزت حد الموضوعية المطلوب في البحث العلمي والشرعي، فكثيراً ما تُصوّر (أي المشكلة) الطريقين وكأنهما وسيلتان متنافرتان ومتعارضتان ليستا ذات هدف واحد هو إثبات هلال الشهر قبل كل شيء، وكثيراً ما نسمع أيضاً: ان الرؤية قطعية وان الحساب ظني، وفي الوقت نفسه نسمع: أنّ الحساب قطعي وان الرؤية ظنية.

وإذا أردنا الجواب الصحيح، فالرؤية نفسها يمكن أن تكون قطعية (بتوافر شروطها)، ومثلها الحساب يمكن أن يكون قطعياً بتوافر شروطه وان يكون ظنياً بعدم توافر شروطه (كما رأينا أثناء البحث).

وعلى ذلك، وطالما أنّ الهدف واحد، والغاية هي الوصول إلى هلال أكيد وصحيح، فلا يهم أي طريقة تكون طالما تحاول توفير قطعية ثبوت الهلال وتعيين أول الشهر القمري. فيمكن أن نستفيد من الوسيلتين معاً، الواحدة تكامل الأُخرى، لنرضي الشرع ونرضي العلم في آن واحد.

فنستخدم الطريقة الحسابية لتوضح مختلف الظروف التي يمكن أن تضبط عملية الرؤية البصرية وتوجههما نحو الطريق الصحيح الذي يوفر لنا اطمئناناً. فالوسيلة الحسابية يمكن أن تقدم لنا معلومات مفصلة عن مولد الهلال الجديد ومدة مكثه بعد غروب الشمس، وفيما إذا كان الظروف المناسبة لرؤيته متوافرة أم لا. إضافةً إلى ذلك تحديدها ارتفاع الهلال فوق الأُفق وزاوية موقعه بالنسبة للغرب، كما يمكن الاستعانة بعلم الأرصاد الجوية لتعيين الأماكن الأفضل للرؤية الخالية من الغيوم والشوائب. كل ذلك، سيساهم في رؤية هلالية صحيحة وشرعية أيضاً. وبغير الحسابات يمكن أن ندّعي رؤية هلال وهمي لا حقيقي، وقد حدث من هذا القبيل أكثر من مره

إنّ الاستعانة بالحسابات ضرورية، وتأتي ضرورتها من توفيرها الاطمئنان اللازم، ودفع خطا ممكن وقع في حالات كثيرة، وبعدمها قد لا يتوافر الاطمئنان المطلوب في إثبات هلال صحيح وشرعي.

وقد تحدث عن الاستعانة بالحساب فقهاء قدماء ومعاصرون. فمن القدماء نذكر:

الفقيه الشافعي تقي الدين السبكي، يقول:« وههنا صورة أخرى وهو أن يدل الحساب على عدم إمكان رؤيته ويدرك ذلك بمقدمات قطعية ويكون في غاية القرب من الشمس، ففي مثل هذه الحالة لا يمكن فرض رؤيتنا له حساً؛ لأنّه يستحيل، فلو اخبرنا به مخبر واحد أو أكثر ممن يحتمل خبره الكذب أو الغلط فالذي يتجه قبول هذا الخبر وحمله على الكذب أو الغلط ولو شهد به شاهدان لم تقبل شهادتهما لأنّ الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيان، والظن لا يعارض القطع فضلاً عن أن يقدم عليه والبينة شرطها أن يكون ما شهدت به ممكناً حساً وعقلاً وشرعاً، فإذا فرض دلالة الحساب قطعاً على عدم الإمكان استحال القبول شرعاً لاستحالة المشهود به والشرع لا يأتي بالمستحيلات»(37).

ومن المعاصرين تحدث عن الاستعانة بالحساب السيد محمد باقر الصدر بقوله: « ينبغي أن يلحظ أيضاً مدى ما يمكن استفادته من استخدام الوسائل العلمية الحديثة من الأدوات المقربة والرصد المركز، فان رؤية الهلال بهذه الوسائل وان لم تكن كافية لإثبات الشهر، ولكن إذا افترضنا أن التطلع إلى الأُفق رصدياً لم يتح رؤية الهلال، فهذا عامل سلبي يزيل من نفس الإنسان الوثوق بالشهادات ولو كثرت، إذ كيف يرى الناس بعيونهم المجردة ما عجز الرصد العلمي عن رؤيته بل يدخل في الحساب – أيضاً – التنبؤ العلمي المسبق بوقت خروج القمر من المحاق فانه إذا حدد وقتاً وادعى الشهود الرؤية قبل ذلك الوقت كان التحديد العلمي المسبق عاملاً سلبياً يضعف من تلك الشهادات، فإنّ احتمال الخطأ في حسابات النبوءة العلمية وان كان موجوداً ولكنه قد لا يكون أبعد أحياناً عن احتمال الخطأ في مجموع تلك الشهادات أو على الأقل لن يسمح بسرعة حصول اليقين بصواب الشهود في شهاداتهم»(38).

ومن المعاصرين أيضاً تحدث عن الاستعانة بالحساب، الشيخ يوسف القرضاوي بقوله: «وقد كنت ناديت منذ سنوات بأن نأخذ بالحساب الفلكي القطعي – على الأقل – في النفي لا في الإثبات، تقليلاً للاختلاف الشاسع الذي يحدث كل سنة في بدء الصيام وفي عيد الفطر إلى حد يصل إلى ثلاثة أيام بين بعض البلاد الإسلامية وبعض. ومعنى الأخذ بالحساب في النفي ان نظل على إثبات الهلال بالرؤية وفقاً لرأي الأكثر من أهل الفقه في عصرنا. ولكن إذا نفى الحساب إمكان الرؤية، وقال: أنّها غير ممكنة، لأنّ الهلال لم يولد أصلاً في أي مكان من العالم الإسلامي-كان الواجب إلاّ تقبل شهادة بحال، لان الواقع يكذبهم بل في هذه الحالة لا يطلب ترائي الهلال من الناس أصلا، ولا تفتح المحاكم الشرعية ولا دور الفتوى أو الشؤون الدينية أبوابها لمن يريد أن يدلي بشهادة عن رؤية الهلال. هذا ما اقتنعت به وتحدثت عنه في فتاوى ودروس ومحاضرات وبرامج عدة »(39).

 

الهوامش

ـــــــــ

1 ـ هاري ساكز. عظمه بابل. ترجمة د. عامر سليمان. جامعة الموصل سنة 1979/ ص525.

2 ـ مارغريت روثن. علوم البابليين. تعريب د. يوسف حبي. دار الرشيد للنشر بغداد 1980 /ص88.

3 ـ صاعد الأندلسي. طبقات الأُمم. مطبعة محمد محمد مطر بمصر ص51.

4 ـ د. جواد علي. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. دار العلم للملايين بيروت/1978 /ط2/ج8/ص445.

5 ـ سورة إبراهيم: 1.

6 ـ سورة البقرة: 189.

7 ـ سورة التوبة: 36.

8 ـ سورة البقرة: 185.

9 ـ الراغب الأصفهاني. المفردات في غريب القران. المطبعة الميمنية بمصر/ 1324هـ (اوفست ايران) /ص267.

10 ـ أبو جعفر الطوسي. تفسير التبيان. تحقيق أحمد حبيب العاملي. النجف الأشرف. مج2/ ص123.

11 ـ الفخر الرازي. تفسيرالفخر الرازي. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. بيروت 1981. مج3/ ج5/ ص95.

12 ـ سيد قطب. في ظلال القرآن. دار الشروق مصر. سنة 1982/ ط10/ ج1/ ص172.

13 ـ السيد محمد حسين الطباطبائي. الميزان في تفسير القرآن. مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت. سنة 1991/ ج2/ ص25.

14 ـ سورة النجم: 3.

15 ـ محمد البخاري. صحيح البخاري بحاشية السندي. دار المعرفة. بيروت ج1/ ص326.

16 ـ مسلم بن الحجاج. صحيح مسلم. تحقيق محمد فواد عبد الباقي. دار إحياء التراث العربي/ بيروت ج2/ ص759.

17 ـ محمد الحر العاملي. وسائل الشيعة. تحقيق عبد الرحيم الرباني. منشورات المكتبة الإسلامية طهران ج4/ ص182.

18 ـ المرجع نفسه/ ج4/ ص183.

19 ـ الأنواء ـ كما يقول ابن قتيبة :((معني النوء سقوط النجم منها في المغرب مع الفجر، وطلوع آخر يقابله من ساعته في المشرق))، ابن قتيبة. الأنواء في مواسم العرب، وزارة الثقافة والإعلام/ بغداد 1988/ ص10.

20 ـ النسيء: ومعناها التأخير. وقال بعضهم الزيادة. وفي القاموس المحيط للفيروزآبادي هو ((شهر كانت تؤخره العرب في الجاهلية فنهي الله عزّ وجلّ عنه)) / طبعة مؤسسة الرسالة/ بيروت/ 1998/ ط 6/ ص54.

21 ـ صاعد الأندلسي. طبقات الأُمم/ ص54/ (مرجع سابق)

22 ـ كارلو نالينو، علم الفلك تاريخه عند العرب في القران الوسطي، روما 1911 (أوفست قاسم الرجب) / ص138.

23 ـ المرجع نفسه/ ص138.

24 ـ صحيح مسلم /مج 2/ ص761 (مرجع سابق).

25 ـ ابن حجر العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت /مج 4/ ص127.

26 ـ للمزيد من التفصيل، راجع كتاب ((إثبات الشهور الهلالية ومشكله التوقيت الإسلامي)) د. نضال قسوم، محمد العتبي و د. كريم مزبان، نشر دار الطليعة /بيروت/ سنة 1997/ ص129.

27 ـ ابن قتيبة الدينوري، الأنواء في مواسم العرب/ ص6-7 (مرجع سابق).

28 ـ سورة البقرة : 286.

29 ـ سورة البقرة : 185.

30 ـ سورة الأنعام : 59.

31 ـ ابن خلدون. مقدمة ابن خلدون. دار الجيل، بيروت / ص516.

32 ـ حاج خليفة. كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون. دار الفكر بيروت /سنة 1982 (أوفست عن طبعه استانبول سنة 1941)/ ج2 / ص1931.

33 ـ المرجع نفسه /ج2/ ص1931.

34 ـ عبد الأمير المؤمن. مكانه الفلك والتنجيم في تراثنا العلمي. إصدار مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، دبي، ص181 وما بعدها.

35 ـ عبد الأمير المؤمن. التراث الفلكي عند العرب والمسلمين وأثره في علم الفلك الحديث، معهد التراث العلمي، جامعة حلب سنة 1992 /ص120 وما بعدها.

36 ـ د. يوسف مروة. ((علم الفلك وأوائل الشهور القمرية)). محاضرة أُلقيت في صيدا بدعوة من اللجنة الثقافية في هيئة العلماء اللبنانية بتاريخ 13/11/1999 (من الانترنت).

37 ـ تقي الدين السبكي. فتاوى السبكي. دار المعرفة/ بيروت ج1/ ص209.

38 ـ السيد محمد باقر الصدر. الفتاوى الواضحة. دار التعارف للمطبوعات / بيروت سنة 1983 / ط 8/ ص630.

39 ـ مجلة الأمان العدد 145/ 24 شباط 1995/(بيروت).

 

 

بطاقة تعريف

 

ـ عبد الأمير المرتضى المؤمن.

ـ كاتب وباحث متخصص في علم الفلك والتراث العلمي ..

ـ من مواليد العراق سنة 1946م ..

ـ تخرج في الجامعة سنة 1970 ـ 1971.

ـ حضر عدداً من المؤتمرات والندوات العلمية والثقافية ..

ـ رئيس تحرير (الكون والفضاء) (نصف شهرية تبث عبر الانترنيت). (صدر منها ثمانية اعداد وتوقفت).

ـ له مقالات وبحوث منشورة في مجلات عربية معروفة كمجلة : العربي الكويتية، وآفاق علمية القبرصية، والمجلة الثقافية الأردنية، والمستقبل العربي البيروتية، والعلم والتكنولوجيا البيروتية أيضاً، ومنار الإسلام(أبو ظبي) وآفاق الثقافة والتراث (دبي) والجامعة الإسلامية (لندن) والفيصل (الرياض) والقافلة (الظهران).

نماذج من إنتاجه:

ـ كتاب (التراث الفلكي عند العرب والمسلمين). إصدار معهد التراث العلمي العربي/جامعة حلب 1992 (266صفحة)..

ـ كتاب (مكانة الفلك والتنجيم في تراثنا العلمي). إصدار مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث. دبي 1997. (400صفحة).

ـ كتاب ( المنظومة الشمسية تراث تأسيسي وحاضر مثير). إصدار ندوة الثقافة والعلوم. دبي 1997 (350صفحة)..

ـ كتاب : (الفلك والفضاء .. من الخرافات والتنجيم إلى تلسكوب هابل) (أكثر من 250 صفحة فلسكاب) لم ينشر..

ـ التنجيم والأبراج في ضوء التطور العلمي الحديث (230 صفحة فلسكاب).

ـ كتاب : الظواهر الكونية الغريبة .. قراءة تراثية وعلمية (250 صفحة) لم ينشر.

ـ الزمن ذلك السر الغامض. مجلة العربي (الكويت).

ـ منحرفون كونيون يهددون الأرض. مجلة العربي (الكويت).

ـ النجوم السوداء. مجلة منار الإسلام (أبو ظبي).

ـ النجوم الثاقبة. مجلة منار الإسلام (أبو ظبي).

ـ الشمس شعلة كونية. مجلة منار الإسلام (أبو ظبي).

ـ أبو سعيد السجزي ودوران الأرض. مجلة آفاق علمية (قبرص).

ـ الكواكب المتحيرة. مجلة آفاق علمية (قبرص).

ـ الفلكي الميداني. مجلة آفاق علمية (قبرص).

ـ السوبرنوفا ظاهرة فلكية عرفها الفلك العربي الإسلامي. المجلة الثقافية (الجامعة الأردنية).

ـ المدارات البيضوية نموذج لتطور الوعي الفلكي في الحضارة العربية الإسلامية. المجلة الثقافية (الجامعة الأردنية).

ـ المراصد الفلكية نقلة نوعية في تأريخ الفلك العربي الإسلامي. مجلة آفاق الثقافة والتراث (دبي).

ـ علم الفلك نموذج لتطور المنهج العلمي في الحضارة الإسلامية. مجلة الجامعة الإسلامية (لندن).

ـ الطاقة المحركة لانتقال العلوم إلى الحضارة الإسلامية. مجلة الجامعة الإسلامية (لندن).

ـ المعرفة العلمية في الحضارة الإسلامية الروح والإبداع. مجلة الفكر الجديد (لندن).

ـ تأريخ علم الفلك ( قراءة في كتاب الهيئة لمؤيد الدين العرضي). مجلة المستقبل العربي (بيروت).

ـ بطليموس قيد الفلك وأطلقه العلماء المسلمون. مجلة الفيصل (الرياض).

ـ النظام المركزي الشمسي بين ابن الشاطر وكوبرنيكوس. مجلة الفيصل (الرياض)

ـ دور البيئة الإسلامية في تطوير علم الفلك. مجلة الفيصل (الرياض)

ـ التنجيم في مواجهة مع الحضارة الإسلامية. مجلة الفيصل (الرياض)

ـ شهب الأسد تقود هجوماً سماوياً غير مسلح. القافلة (الظهران).


Copyrights reserved IAC © 1998-2024. Powered and developed by Web design and development company amman, jordan. Web hosting and website and identity (logo) design